حاوره: عــلــي أحــمــان
على إثر اللقاء الذي جمع مؤخرا بين إدارة جريدة مغرب الغد والسيد عبد الحكيم قرمان على هامش ندوة فكرية شارك في تأطير أشغالها بمراكش حول “القراءة وحقوق المؤلف”، يسعدنا أن نحاور في شخصه الأستاذ الباحث في العلوم السياسية، الخبير والمتخصص في الملكية الفكرية ورئيس منظمة فضاأت الإبداع والتنمية، وذلك سعيا منا لتسليط الضوء على مسارات الرجل الغنية والمتعددة، وكذا الاستنارة بآرائه وتحاليلها للعديد من القضايا المجتمعية الهامة عبر هذا الحوار الشامل والمثير.
المؤسسة الملكية بالمغرب هي صمام الأمان بالنسبة للبناء المؤسساتي للدولة، و هي ضامن وحدة وتوازن وتماسك واستمرارية الأمة المغربية، كما أن نضج التجربة الديمقراطية المغربية حال دون منزلقات “أخونة” الدولة والمجتمع؛
1) بصفتكم الأستاذ والباحث في العلوم السياسية، ما هي قراءتكم للوضعية السياسية المغربية في ظل ما اصطلح عليه بالربيع العربي؟
بناء على ما هو متوفر من معطيات، وانطلاقا من تفاعلات الأحداث وما يقدمه الفاعلون السياسيون من عروض وما يسوقون له من أفكار وطروحات، على الأقل خلال الفترة الزمنية الفاصلة بين اندلاع الموجات الأولى لفورات “الربيع العربي”، إلى الآن، يمكن الدفع بالملاحظات و الخلاصات التالية:
- على الرغم مما أحدثه الحراك الاجتماعي والسياسي الذي شهده المغرب في الفترة المذكورة، وما أفضى إليه هذا الحراك من نتائج، كان أبرزها إقرار دستور 2011 بحمولته السياسية والمؤسساتية والحقوقية و السوسيوثقافية النوعية والمتقدمة، فقد تبين بالملموس تراجع حضور وتأثير النخب السياسية التقليدية، بموازاة مع ثبات أسس ومؤسسات الدولة وقدرتها على تجديد خطابها باستدماج المتغيرات ضمن نسقية الحفاظ على الثوابت و المرجعيات.
وانطلاقا من هذه المفارقة، يمكن تفسير مجمل الاختلالات التي يعرفها الحقل السياسي المغربي، خصوصا في مشهده الحزبي، بمتغيرين بارزين: أولهما المنسوب العالي لمجرى التحولات القيمية للمجتمع، في ارتباطها بمناخ وتأثيرات العولمة من جهة، و بروز نخب وفاعلين جدد ضمن الفضاء العمومي، أكثر حضورا وتأثيرا وقربا من المواطنين، من الفاعلين السياسيين التقليديين. وثانيهما دخول المغرب منذ سنوات تجربة الانتقال نحو الديمقراطية، مع اتساع مجال الحريات العامة، في ارتباط بتنامي حضور وتأثير الطبقات الاجتماعية الوسطى وحلفائها الطبيعيين في المجتمع (الحركات الحقوقية والاحتجاجية والمدنية) الشيء الذي يجعلنا نتوقع أن المشهد السياسي الوطني عموما سيدخل مرحلة إعادة التشكل والبناء في الأمد المنظور، لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ كما يقال؛
- انطلاقا من الزخم الذي خلفته بدايات التغيير السياسي في الفضاء العربي والمغاربي (الموجة الأولى ل”الربيع العربي”) – التي كان عنوانها البارز مكثفا في ثلاثية “الحرية-الكرامة-العدالة الاجتماعية”، والتي أفضت إلى تغيير العديد من الأنظمة الشمولية بالمنطقة– تميز السياق المغربي بعنفوان الحراك الاجتماعي من جهة، وبحنكة المؤسسة الملكية التي استوعبت خصوصيات وديناميات الحركة الاحتجاجية والمطلبية بشكل بالغ الذكاء، وعميق التمثل لمستلزمات وطبيعة المرحلة السياسية المستجدة، وبالتالي استشراف حقبة جديدة في مسارات الانتقال الذي باشره المغرب منذ سنوات.
ومن هنا ندرك بجلاء الدور المحوري الذي تلعبه المؤسسة الملكية بالمغرب. فهي صمام الأمان بالنسبة للبناء المؤسساتي للدولة، كما هي ضامن وحدة وتوازن وتماسك واستمرارية الأمة المغربية. فبالرغم من التشابه الذي ميز الواقع السياسي المغربي في بعض الجوانب والنتائج التي برزت في الساحتين التونسية والمصرية، من خلال امتطاء الإسلاميين موجة تدبير الشأن العام، إلا أن نضج التجربة الديمقراطية المغربية حال دون “أخونة” الدولة والمجتمع؛
- انطلاقا من الموجة الثانية لفورة “الربيع العربي” والتي تمثلت في بروز وهيمنة الحركات السياسية ذات المرجعيات الدينية، واستثمارها اللافت للزخم السياسي والإعلامي الذي بلورته وأخرجته و نفذت أهم فصوله الشريحة الشبابية الثائرة على الأوضاع الاقتصادية والسياسية المزرية في أوطانها، يمكن الحديث عن توجهين بارزين برؤى مختلفة للتغيير، قد بصما الموجتين الأساسيتين ضمن ما يصطلح عليه “بالربيع العربي”. فنجد من جهة، موجة (الداخل) متمثلة في الحركات الاحتجاجية الشبابية ذات الميولات الديمقراطية والتي يعود لها الفضل في إحداث وصنع ملامح التغيير، (تونس، مصر، ليبيا، اليمن…) وبموازاتها، تنامت وتغلغلت أذرع أخرى تمثل (حسابات الخارج) المتناغمة مع القوى التحكمية والنكوصية الكامنة في الداخل ليشكلا معا “آليات للضبط والتوجيه” حسب الأجندة المطلوبة، لمسارات التغيير التي أفرزتها حركات الشارع العام من جهة أخرى .
و لكون هذه الحركات الاحتجاجية الموسومة “بالشبابية” لم تفرز قيادات سياسية حاملة لمشروع سياسي واضح المعالم، ولكونها تفتقد للتراكم التنظيمي والخبرة والقدرة التفاوضية ضمن حلبة الصراع على السلطة (“منتوج الثورة” المنشودة)، فقد كان من السهل والميسر للحركات السياسية ذات المرجعية الدينية أساسا وحليفتها التكتيكية العسكرية بهذه الأقطار، أن تمتطي صهوة الشارع، مستعملة في ذلك خبرتها الطويلة في العمل السري (القوى الدينية) والغطاء الأمني واللوجستيكي (الأجهزة العسكرية)، وقدرة الطرف الأول، المعلومة، على توظيف الخطاب الديني كمحفز نفسي ووجداني، وكمنهج تأطيري معبئ محرض للجماهير ضد باقي المنافسين السياسيين، لتوجيه عنفوان الشارع في اتجاه خدمة مشروعهما السياسي المتماهي تكتيكيا، والمتعارض استراتيجيا. وهو المنحى الذي انبلجت معالمه بشكل متباين من خلال النموذجين التونسي والمصري من جهة، و النماذج السورية واليمنية والليبية من جهة أخرى.
و بناء عليه، يمكننا القول إجمالا، بأن مختلف ارتدادات وتموجات “فورات الربيع العربي”، كان لها بالمغرب صدى وتأثير مختلفان بالمقارنة مع باقي الأقطار العربية والمغاربية المذكورة، وبالتالي، تختلف زوايا تحليل مضمون ومخرجات الحراك الاجتماعي والسياسي في المغرب وضرورة تميزه عن غيره شكلا ومضمونا. الشيء الأكيد، الذي تنبغي الإشارة إليه في هذا الباب، هو أن المغرب قد نجح في اجتياز هذه المحطة بسلام لسببين أساسيين: أولهما، مراكمة المغرب لتقاليد عريقة في مجال التعددية السياسية والنضال الحزبي والسياسي والنقابي والشبابي والطلابي والجماهيري، وثانيهما رسوخ القواعد الاجتماعية والمرجعيات الثقافية كثوابت متوافق عليها في إطار مركزية الدولة المغربية بإجماع المغاربة على اختيارهم التاريخي متمثلا في النظام الملكي كأسلوب ونمط في الحكم يحقق تماسك بنيان الدولة وانصهار مكونات المجتمع على المستويين الدنيوي و الديني، وهو النظام الذي تحققت من خلاله أمجاد المغرب منذ قرون|؛ ذلك أن المؤسسة الملكية بالمغرب هي صمام الأمان بالنسبة للبناء المؤسساتي للدولة، و هي ضامن وحدة وتوازن وتماسك واستمرارية الأمة المغربية، كما أن نضج التجربة الديمقراطية المغربية سيظل حائلا أمام منزلقات “أخونة” الدولة والمجتمع.
التعجيل بوضع القانون التنظيمي للأحزاب السياسية وفقا لنص وروح الدستور أصبح أمرا ملحا
2) كيف ترون المشهد الحزبي بالمغرب في ظل الدستور الجديد بين الواقع و الانتظارات؟
حقيقة، يمكن القول بأن المشهد الحزبي في مجمله، يبعث على التساؤل. فإذا انطلقنا من أحكام الدستور، -الفقرة الأولى، الفصل السابع من الباب الأول- والذي يحدد مهام ووظائف الأحزاب: ” تعمل الأحزاب السياسية على تأطير المواطنات والمواطنين وتكوينهم السياسي، و تعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية، وفي تدبير الشأن العام، وتساهم في التعبير عن إرادة الناخبين، والمشاركة في ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية وفي نطاق المؤسسات الدستورية”. فإذا كانت هذه هي المهام الموكولة دستوريا للأحزاب، فأنا أتساءل معكم إلى أي حد تقوم مجمل أحزابنا بمهامها الدستورية المشار إليها كما ينبغي.
والأمر يصبح أنكى حين نقرأ الفقرة الثانية من نفس الفصل “تؤسس الأحزاب وتمارس أنشطتها بحرية في نطاق احترام الدستور والقانون”، أضف إلى ذلك الفقرة الثالثة للفصل السابع “لا يجوز أن تؤسس الأحزاب السياسية على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، وبصفة عامة على أي أساس من التمييز أو المخالفة لحقوق الإنسان”. وعليه، فإذا نظرنا إلى مدلول الفقرة الثانية من هذا الفصل، نجد أن المشرع المغربي يتيح بكل حرية حق تأسيس الأحزاب والانخراط فيها، ويكفل حق هذه الأخيرة في ممارسة أنشطتها السياسية المختلفة، لكن يقيدها في نفس الآن بوجوب احترام الدستور والقانون. وأما الفقرة الثالثة فهي تنص صراحة على عدم وجوب ارتكاز أي حزب سياسي على أساس ديني أو لغوي أو عرقي أو جهوي، ومن هنا نتساءل إلى أي حد تعكس ماهية وفكر وممارسات بعض مكونات المشهد الحزبي هذه المقتضيات الدستورية؟
وتأتي الفقرة الخامسة من نفس الفصل لتقول “يجب أن يكون تنظيم الأحزاب السياسية وتسييرها مطابقا للمبادئ الديمقراطية”، وهنا بيت القصيد، وهو ما يطرح بوضوح سؤال “الديمقراطية الداخلية للأحزاب”، في التسيير الإداري والتدبير المالي واحترام حقوق الأقليات في التعبير عن ذاتها وأفكارها انطلاقا من هذا الحق الدستوري المكفول لكل المغاربة.
و أما الفقرة الأخيرة من نفس الفصل فتنص على ما يلي “يحدد قانون تنظيمي، في إطار المبادئ المشار إليها في هذا الفصل، القواعد المتعلقة، بصفة خاصة، بتأسيس الأحزاب السياسية، وأنشطتها، و معايير تخويلها الدعم المالي للدولة، وكذا كيفية مراقبة تمويلها.”
وبناء على ما ذكر، تتأكد ملحاحية التعجيل بوضع القانون التنظيمي للأحزاب السياسية وفقا لنص وروح الدستور.
العشرية المقبلة ستكون فارقة بين حقبتين. والأكيد أن المؤسسة الملكية، بما تمثله من عمق تاريخي، وحضور سياسي، وتأثير وجداني في المجتمع، هي من ستقود هذا التغيير.
3) و عن الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمغرب، من منظور استشرافي؟
في هذا الخصوص، وعلى غرار ما قيل حول المجال السياسي، يمكن الحديث إجمالا عن الوضعية الاقتصادية للمغرب من خلال ثلاثة زوايا:
- على المستوى الماكرواقتصادي، يبدو أن المغرب قد تمكن، ولا زال في مقدوره، عبور تأثيرات ومخلفات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، خلال العشرية الأخيرة، وهذا يدفعنا للقول بأن البنية الاقتصادية للمغرب، بما تمثله من موارد ومؤهلات وإمكانيات مؤسساتية وفي مجال الخبرة، تتمتع بصلابة وبقدرة كبيرتين على التأقلم و تحمل اكراهات وعوادي المناخ الاقتصادي والمالي الدولي، على الرغم من التكلفة الاجتماعية التي قد تتطلبها هذه الظرفية.
- أما على مستوى الإسقاطات التنموية والاجتماعية والسوسيوثقافية للاقتصاد الوطني، فهناك اختلالات ملحوظة، سواء على مستوى توزيع الثروة، أو في مجالات التنمية المجالية المندمجة، تحسين مؤشرات التنمية البشرية، معالجة قضايا ارتفاع تكلفة المعيشة بالنسبة للمواطنين، الحد من استمرار مظاهر الفقر والهشاشة، في القرى والمدن على السواء…وتأسيسا على ما سلف، يطرح سؤال الحكامة والتدبير الجيد ودمقرطة الاقتصاد بقوة. وبالتالي، تبقى المسألة الاجتماعية بكل أبعادها الاقتصادية والسوسيوثقافية والحقوقية محور الإشكاليات التي على المغرب معالجتها في خضم مساره الانتقالي نحو الديمقراطية؛
- أما بخصوص المجال الثقافي، فلا شك أن دستور 2011 بما تضمنه من مقتضيات وحقوق ثقافية، قد أعطى للجسم الثقافي عموما، دينامية ملحوظة، في كل مجالات وفضاءات ومكونات الحقل الثقافي والفني الوطني بمختلف روافده وتعبيراته اللغوية والفكرية والقيمية والجمالية. وبناء على هذا المتغير البارز، الذي تجسدت تجلياته الملموسة في إطار السياسة العمومية المنتهجة في هذا المجال، وما أضافته للقطاع من محفزات وتوجهات تروم مواكبة الديناميات والفعاليات الثقافية والإبداعية المغربية ببلادنا، في أفق إرساء رؤية المغرب الثقافي وولوج عهد اقتصاد المعرفة.
وعموما، يمكنني مشاطرتكم بعض التوقعات المستقبلية المبنية على استقراء و تحليل هذه الخلاصات برؤية استشرافية، كالآتي:
- من المؤكد أن المغرب خلال الأمد المنظور، سيشهد مزيدا من الانفتاح والتأقلم مع المناخ والمتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية الدولية، مما يستوجب تسريع الإصلاحات الجوهرية المواكبة في بعض القطاعات الحيوية، نذكر منها : تحديث منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي، تحسين مناخ الاستثمار وحوكمة المنظومة الاقتصادية، تطوير المرافق والخدمات في مجال الصحة العمومية، واستيفاء مضامين إصلاح منظومة القضاء. ويبقى أهم المداخل لكل هذه الأولويات إصلاح الحقل السياسي عبر عقلنة ومأسسة ودمقرطة وتجديد الجسم الحزبي. ذلك وحده في اعتقادي كفيل بإحداث التغيير نحو الأفضل؛
- تفاؤلي الراسخ وثقتي في عبقرية وقدرة المجتمع المغربي العريق، وتطلع أجياله الجديدة إلى مستقبل حداثي وديمقراطي متقدم اقتصادياـ اجتماعيا، سياسيا وثقافيا، يدفعني للقول بأن العشرية المقبلة ستكون فارقة بين حقبتين. والأكيد أن، المؤسسة الملكية، بما تمثله من عمق تاريخي، وحضور سياسي، وتأثير وجداني في المجتمع، هي من ستقود هذا التغيير.
ينبغي إرساء نموذج مغربي، للنهضة الاقتصادية والرقي الاجتماعي والتطور التكنولوجي والعلمي والانفتاح على تجارب وثقافات العالم المتقدم
4) كيف يمكن تثمين الرأسمال اللامادي باعتباره رافعة للتنمية المستدامة؟
بداية، ينبغي التمييز بين مفهوم الرأسمال اللامادي كمفهوم اقتصادي، وهنا يمكن استبدال مصطلح الرأسمال يكلمة “الموروث” والمؤهلات و العوامل الغير الاقتصادية المشكلة للثروة اللامادية للمجتمع. من جهة ثانية، فان الارتكاز على ما يختزنه المغرب من مؤهلات بشرية محفزة وعوامل غير اقتصادية منتجة للثروة، يمر عبر إبراز دور ومكانة الإنسان المغربي في التنمية، كمبدع ومنتج ومحور وغاية تثمين هذا الرأسمال. وبهذا المعنى، يمكننا الحديث عن منظور متجدد لاحتساب وتدبير مجمل الموارد والطاقات والكفاءات والمهارات المجتمعية الاقتصادية والغير اقتصادية، ضمن استراتيجية للتنمية المتعددة الأبعاد، من خلال إرساء نموذج مغربي، للنهضة الاقتصادية و الرقي الاجتماعي والتطور التكنولوجي والعلمي والانفتاح على تجارب وثقافات العالم المتحضر. بمعنى جعل الدولة في خدمة المجتمع، و تأهيل المجتمع اقتصاديا وسياسيا وثقافيا كي يؤثر ديمقراطيا في بلورة وإنتاج النخب المؤهلة والفاعلة في دواليب مؤسسات الدولة وبنيات التنشئة السياسية والمدنية المختلفة.
هناك منحى فكري يعبر عن استدماج عقلاني لمختلف مكونات الهوية الوجدانية و الثقافية للبلاد، وعن انتماء موضوعي للثقافة والفكر الإنساني. وشخصيا، أجدني ميالا بحكم قناعاتي وتجربتي المتواضعة إلى هذا المسلك الثالث.
5) بصفتكم مثقفا وكاتبا ، كيف ترون المشهد الثقافي الوطني ؟
في هذا الإطار، وتثمينا لما قيل سابقا، يمكنني مقاسمتكم بعض الأفكار التي تشغلني في هذا الباب:
الفكرة الأولى مفادها أن المشهد الثقافي المغربي، وبالرغم من الإكراهات المادية والمجالية والولوجية، التي تبرز هنا أو هناك، إلا أنه مشهد غني و حيوي وصاخب في بعض تجلياته، وأكاد أقول بأن هذا المشهد الثقافي كان ولا يزال بمثابة السلطة المجتمعية الهادئة والمؤثرة في مجريات الوقائع والأحداث. فقد لعب المثقفون في السابق، أدوارا طليعية ضمن الحراك السياسي والاجتماعي منذ الاستقلال إلى اليوم. وهم يواصلون الآن في إطار مرحلة الانتقال التي يعيشها المجتمع، تنشيط وتأثيث الفضاء الثقافي والفني و الإبداعي وكذا تشكيل ملامح مشروع المغرب الثقافي الكبير كتجربة مغربية لها خصوصياتها الحضارية، وتطلعاتها الكونية الإنسانية.
من ناحية أخرى، يبدو أن المجال الثقافي بالمغرب، بقدر ما هو غني و متنوع، تتجاذبه نزعتان تمارسان الشد والجذب فيما بينهما، الأولى تيار معاصر ينهل من كل ما أنتجته بعض التجارب الغربية كرؤية وأسلوب في التفكير و التدبير والحياة. والثانية محافظة و نكوصية تمتح من المرجعيات التقليدية والإقليمية التي تتسم بإفراط في تقديس الموروث و محاولة استرجاعه وفرضه على واقع الحاضر المتغير في تغييب للتطور والإبداع. وبين هاتين النزعتين الرئيسيتين، هناك توجه ثالث يمزج بين الحداثة والخصوصية، في محاولة لخلق طريق ثالث يكون معبرا عن عمق و مكونات الهوية المغربية، ومنفتحا يستوعب بذكاء كل التراكمات الايجابية للإنسانية، بل هو توجه ينأى عن النزعتين السالفتي الذكر، لكونه فعل ومنحى فكري يعبر عن استدماج عقلاني لمختلف مكونات الهوية الوجدانية والثقافية للبلاد، وعن انتماء موضوعي للثقافة والفكر الإنساني. وشخصيا، أجدني ميالا بحكم قناعاتي وتجربتي المتواضعة في هذا المسلك الثالث.
لا يمكن تحسين وضعية الفنانين والمبدعين الاجتماعية والرمزية إلا في ظل مقاربة تشاركية مجسدة للإرادة السياسية، و اعتمدت على الكفاءة والخبرة والالتزام و نزاهة الفكر والذمة.
6) بصفتكم خبيرا و متخصصا في الملكية الفكرية (حقوق المؤلف والحقوق المجاورة)، كيف تنظرون إلى وضعية الفنانين والمبدعين الاجتماعية والرمزية بين ضمانات الحماية القانونية وواقع الممارسة؟
أعتقد أن هذا السؤال يكمل ما سبقت الإشارة إليه في المحور الخاص بالمشهد الثقافي والفني ببلادنا. وعليه، فالحديث عن أوضاع المؤلفين والمبدعين في ظل السياق المجتمعي الراهن، هو حديث ينبغي أن يلامس ثلاث أركان أساسية في هذه المرحلة السوسيوثقافية التي نصطلح عليها ب”الانتقالية”:
الركن الأول يتمثل في البناء المؤسساتي والتنظيمي للقطاع؛ وهو ما يعني ضبط الآليات التشريعية والقانونية، وإيجاد البنيات و الهياكل التدبيرية والتنفيذية والوسيطة، لتحقيق التكامل والانسجام بين مختلف مكونات الحقل الثقافي والفني بشكل عام؛
الركن الثاني يقوم على أساس ضرورة تخليق الجسم الثقافي، و حرص الجهاز التنفيذي للدولة على تنزيل واحترام مقتضيات الدستور في القطاع، وأساسا محاربة الريع و كل أشكال الزبونية والمحاباة في المجال التدبيري، ومن ثم، القطع مع ثقافة التحكم والاستبداد في كل حلقات العملية الإبداعية، سواء بالضرب على أيدي كل من يوظف مهمة تمثيلية لفئة، أو يتحمل مسؤولية، تخوله الحديث باسمها، في قضاء مصالحه الخاصة باسم الدفاع عن المبدعين، ناهيك عن كل الانحرافات والتشوهات التي تفضي إليها مثل هذه الممارسات. والحالة المزرية للمكتب المغربي لحقوق المؤلفين هي أسطع مثال على ما أقول. كما ينبغي على الجهاز التنفيذي المعني ومن يمثله أن يلتزم بالمقتضى الدستوري المتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة، واحترام الأسس والمرتكزات الديمقراطية التي تقوم عليها الدولة المغربية، ومبدأ التزام الشفافية والنزاهة الفكرية والاستقامة في ممارسة السلطة، واحترام تكافؤ الفرص، وتساوي المواطنين أمام القانون، والأهم من ذلك ، الوفاء بالقسم ( اليمين الدستوري)، الذي يطوق عنق كل مسؤول تنفيذي مؤتمن على رعاية الحقوق وتنفيذ الالتزامات في ظل الدستور والقانون (وسوف تكون لنا عودة إلى هذا الموضوع بالتفصيل في القادم من الأيام بإذن الله)؛
أما الركن الثالث فيشمل الجوانب المتصلة بالوضعية الاعتبارية للمبدعين داخل المجتمع، وكذا عناية الدولة بالشؤون الاجتماعية للمثقفين والمبدعين عموما. ويعتبر إدخال الإصلاحات الحقيقية في مجال حماية وتدبير الحقوق المادية والأدبية والحقوق المجاورة، المدخل الطبيعي لتجسيد المكانة الرمزية المنشودة للمبدعين، وكذا بلورة رؤية عملية وممأسسة لإحاطة هذه الفئة بالدعم والمواكبة الضروريتين في المجال الاجتماعي و التضامني.
وبذلك تشكل هذه الأركان الثلاثة إن انبنت على مقاربة تشاركية بين مختلف الشركاء المعنيين مجسدة للإرادة السياسية ، واعتمدت على الكفاءة والخبرة والالتزام ونزاهة الفكر والذمة، منطلقا حقيقيا ورؤية استراتيجية للإصلاح والتغيير نحو الأفضل.
لم أتقدم بترشيحي لمنصب مدير المكتب المغربي لحقوق المؤلفين، الذي تمت حياكته على مقاس مرشح بعينه، في ضرب صارخ لمبدأ تكافؤ الفرص ومساواة المواطنين أمام القانون بموجب الدستور، لكوني بكل تواضع حامل لمشروع ورؤية للقطاع، ولست متهافتا على الكراسي لذاتها، ولنا عودة للتفاصيل والمعطيات الحقيقية لتنوير الرأي العام الوطني حول ملابسات ودوافع هذا القرار
7) علمت جريدة مغرب الغد أن السيد وزير الاتصال قد أعلن منذ مدة عن فتح باب الترشيح لمنصب مدير المكتب المغربي لحقوق المؤلفين، غير أنه لم يتقدم سوى مرشحه الوحيد، الأمر الذي تطلب تمديد الترشيح لفترة جديدة. هل تؤكدون هذه المعطيات و لماذا لم تتقدموا بترشيحكم لهذا المنصب كما كان متوقعا علما أنكم تحملتم المسؤولية بهذا المكتب وبوزارة الاتصال نفسها، ولكم مؤلف حول إشكالية حقوق المؤلف بالمغرب، ناهيك عن تخصصكم الأكاديمي في الموضوع حيث نلتم دبلوم الدراسات المعمقة في الموضوع، كما مثلتم المغرب في مجموعة من المفاوضات المتعلقة بالاتفاق التجاري المتعدد الأطراف حول مكافحة التقليد والقرصنة، ما بين 2007 إلى 2010 و حصلتم على شواهد للخبرة الدولية في هذا المجال؟
يضحك. يا سيدي الفاضل، أنا بكل تواضع حامل لمشروع ورؤية للقطاع، ولست متهافتا على الكراسي لذاتها…كما أنني ومنذ سنوات وأنا أجوب الوطن في إطار اللقاءات والندوات والورشات التكوينية والمهرجانات الثقافية والفنية، مساهما بذلك في نشر والتعريف بقضايا حقوق المؤلف والحقوق المجاورة ورهاناتها المختلفة، وهذا دور قمت به تطوعا وعن قناعة والتزام خدمة للصالح العام، علما أن هذا الدور التنويري والتحسيسي، من المفترض، أنه منوط بالأساس بالمكتب والقطاع “الوصي”. وعلى كل حال، أسألكم بدوري، هل اطلعتم على “المواصفات” المتضمنة في الإعلان الأول/ المعدل، التي تمت حياكتها على مقاس المرشح الوحيد و الأوحد، وهل لديكم فكرة عن الملابسات التي سبقت وأحاطت وأعقبت المرحلة “الأولى المعدلة” للإعلان عن فتح “باب الترشيح”؟ وما أسفرت عنه؟.على العموم، وكما أسلفت، لنا عودة في الوقت المناسب إن شاء الله، لنطلع الرأي العام على الحيثيات والمعطيات الحقيقية عند اكتمال تفاصيل “المشهد”. وبذلك ستكون الفرصة مناسبة لتنوير كل من يهمه الأمر حول ما حصل و ما قد يحصل لاحقا.
إن فضاءات الإبداع والتنمية تشكل تجربة مدنية كان لها قصب السبق في إبداع جملة من المفاهيم المتماشية عقلانيا مع سيرورة الفعل الجمعوي الفاعل ضمن إطار شفاف و متكامل البناء و الأداء.
8) طيب، بصفتكم فاعلا جمعويا (رئيس منظمة فضاءات الإبداع والتنمية)، وارتباطا بالأدوار الدستورية للمجتمع المدني، ما هي أهم أهداف هذه المنظمة ومساراتها ومنجزاتها؟
بعد مضي ما يفوق عقدا من الزمن في البذل والعطاء الجمعويين، وما راكمته فضاءات الإبداع والتنمية على مدى هذه العشرية الحافلة بالتراكمات الإبداعية بمختلف فضاءاتها، التربوية، الثقافية، الفنية والتنموية، وفي تفاعل إيجابي وعقلاني مع متغيرات المرحلة وتموجاتها الوطنية، الإقليمية والدولية، نحن اليوم بصدد مساءلة الحصيلة واستشراف المستقبل على أرضية برنامجية تعاقدية في ظل العهد الدستوري الجديد، وما يحتمه علينا من رهانات وتحديات.
تحت شعار : “حداثة، ابداع وتنمية” التأمت نخبة من الطاقات الشبابية والطلابية والفنية تمثل مختلف جهات المملكة، يوم 13 يوليوز 2003 بالرباط، وبإشراف من اللجنة الوطنية للتنسيق والمتابعة، في إطار فعاليات المؤتمر التأسيسي لمنظمة فضاءات الشباب للإبداع والتنمية كجواب منطقي جديد ومستشرف لآفاق مغرب قوي ومتجدد باعتلاء الملك الشاب، صاحب الجلالة الملك محمد السادس عرش البلاد. وفي زخم التحولات المجتمعية التي لاحت بقوة مع انطلاق اوراش الدمقرطة والتحديث المؤسساتي في ظل العهد الجديد، وما صاحبها من اوراش ومشاريع تنموية أعلنت كذلك عن انبلاج جيل جديد من الفاعلين الشباب في شتى الميادين، انبثقت الملامح الأولى لمشروع جمعوي مدني خلاق كمعبر عن تطلعات فئة واسعة من النخب الشابة المغربية، التي ظلت تتقاذفها الإرادة الصادقة والعزيمة القوية لولوج تحديات المرحلة برؤى مستقبلية جريئة وواعدة …تلك النخب التي ظلت تكبح عنفوانها الإبداعي مختلف كوابح الممارسة التأطيرية العتيقة للشباب من جهة، وهي المؤمنة الناهضة والمتطلعة لبناء مغرب الكرامة والحريات والعدالة الاجتماعية من منظور مجدد في الفكر وخلاق في المقاربة من جهة ثانية…فكانت محطة المؤتمر الوطني التأسيسي بمثابة بداية الرحلة والمسار. وبعد مضي ثلاث سنوات تحركت الطاقات المبدعة للمنظمة في مختلف الواجهات الجمعوية والمدنية والحقوقية والتنموية ذات الصلة بقضايا الشبيبة المغربية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا لتتحول الفكرة إلى مشروع متكامل ثم إلى رؤية تنظيمية وقيمية بدلالات إنسانية وإنسية متبلورة بشكل أرحب وأرقى. فجاءت محطة الملتقى الوطني الأول للأطر بالخميسات سنة 2006 لتقييم وتقويم فترة التأسيس ونتائجها كما ونوعا، تحت شعار “حكامة المجتمع المدني كرهان للتنمية”، وبذلك اشتغل المؤتمرون بعمق اكبر وبمنظور أوضح على تحيين مضامين المشروع الثقافي والجمعوي للمنظمة عبر الانفتاح على تجارب الهيئات الشبابية والطلابية العربية والمغاربية قصد التبادل والتثاقف بغية تثمين التجربة والتركيز على تجويد الممارسة والأداء.
وهكذا تم تطوير مختلف الوثائق التنظيمية والفكرية والبرنامج السوسيوثقافي العام وكذلك تشذيب التسمية لتصبح “فضاءات الابداع والتنمية”…فتمت مواصلة المشوار بعزيمة أكبر وبانتشار تنظيمي شمل معظم جهات المملكة رافقه إشعاع ونشاط ثقافي وفني ورياضي وحقوقي جد متميز…والأهم من ذلك كله، أن منظمة فضاءات الإبداع والتنمية تبقى تجربة غاية في النمذجة والتفرد فكريا وتنظيميا وتسييرا، بحيث يحق لكل روادها المؤسسين والمحدثين أن يعتزوا بما حققوا معا وسويا لهذه التجربة الرائدة بكل تضحية وصبر وممانعة لمختلف المناورات والأساليب الرخيصة باستغلال النفود لمحاولة الضغط والتهميش والوأد والإحباط التي واجهتها “فضاءات الإبداع والتنمية” وأطرها منذ لحظة تأسيسها وإلى اليوم.
لقد أعطت مكونات الفضاءات دروسا رائعة في البذل والاعتماد على الذات وعلو الكعب ودماثة السلوك ورقي الممارسة الجمعوية المؤسسة لمشروع قائم على القيم، حداثي المنهج، واقعي التعاطي مع المحيط والمتغيرات، خلاق للمقاربات ومبدع متقدم في الأسلوب والأداء…وبعد الملتقى الوطني الثاني للأطر الذي التأم بالرباط سنة 2009 وسلسلة من المنتديات الجهوية المواكبة، تمكنت المنظمة من تخطي إكراهات التأسيس، وكوابح المحيط، لتفرض وجودها النوعي في الساحة الوطنية بالإعتماد على الكفاءة والمصداقبة والنضج الفكري والتوسع التنظيمي والجرأة في التحليل والمقاربة.
إن فضاءات الإبداع والتنمية جاءت كتعبير طبيعي وضرورة تنظيمية مجتمعية من لدن مبدعيها المؤسسين، وفي سياق سيوسوثقافي في بدايات تشكله التنظيمي، القيمي والفكري للعهد الجديد وما واكبته من تحولات اجتماعية وثقافية عميقة أسست لمغرب الألفية الثالثة تحت القيادة الرشيدة لعاهل البلاد، وما دشنته مرحلة التناوب الأولى من أوراش ثقافية، اجتماعية، سياسية واقتصادية لافتة، فضلا عن قيم الحداثة والديمقراطية التي كانت وستظل الأرضية المشتركة لمختلف الفاعلين والمبدعين بالفضاءات، وهو ما زاد من عزمنا وقوى إصرارنا على المضي قدما في بلورة وتطوير وتمنيع هذا النموذج الجمعوي الإبداعي منذ مؤتمره التأسيسي يوم 27 يوليوز 2003 بالرباط.
و تأسيسا على ما سبق، وبعد اجتياز بلادنا لمخاضات الحراك الاجتماعي ضمن ما يصطلح عليه ب”الربيع العربي”، والذي تميز في سياقنا المغربي ببروز حركة 20 فبراير الشبابية، التي نشطت وأعطت زخما غير مسبوق لتسريع وتعميق الإصلاحات السياسية والدستورية التي تحتاجهما البلاد، وبالنظر إلى كون قيادة وأطر منظمتنا كانت ضمن النسيج المدني الذي ساهم بالفكر الجاد والنقد البناء والاقتراح الجيد ضمن فعاليات النقاشات العمومية الرصينة…وفي هذا السياق، وبعدما تحققت الرغبة المجتمعية وتجاوبت معها الإرادة الملكية الجريئة في إطار الإصلاحات الدستورية لسنة 2011، وما تلاها من استحقاقات ، التأمت فعاليات المؤتمر الوطني الثاني للمنظمة خلال شهر يناير 2013 ببوزنيقة تحت شعار “الكلمة للإبداع”.
وبذلك تكون المنظمة قد خرجت بشكل كلي من مرحلتي التأسيس والبناء إلى مرحلة العقلنة والتجويد والحرفية في الأداء… وبعد تقييم مسار 13 سنة من العطاء والعمل الجمعوي الجاد في خدمة الثقافة والفن والعمل المدني الهادف، يمكننا القول بكل فخر إننا اليوم مقبلون على فتح آفاق واعدة بكثير من الآمال والتطلعات.
وهكذا فإن منظمة فضاءات الإبداع والتنمية، وانطلاقا من مرجعيتها الفكرية التأسيسية وعقدها التوجيهي وصيغها التنظيمية المرنة، المتكاملة والمحكمة، وفي ظل قراءتها التحديثية للممارسة الجمعوية ببلادنا، كان لها قصب السبق في إبداع جملة من المفاهيم والمصطلحات المتماشية عقلانيا مع السيرورة العلمية والعملية لمستجدات الفعل الجمعوي الفاعل ضمن إطار شفاف و متكامل الفضاءات الإبداعية، بفكر شبابي طموح وبسواعده الفتية في تنظيم مدني منفتح على مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، في البوادي والمدن وفق آليات للتعاقد الداخلي والشراكات الخارجية على قاعدة المأسسة التنظيمية والفكرية لميادين الاشتغال ومختلف ضروب المسؤوليات الفردية والجماعية حتى تكون بحق قوة مؤثرة للاقتراح وشريكا استراتيجيا لباقي المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في التفعيل الأمثل لمشاريع التنمية البشرية المستدامة.
تكامل الحقلين السياسي والمدني يمر عبر عقلنة العمل السياسي ودمقرطة الفعل الحزبي، و تخليق الخطاب والممارسة لدى الفاعلين السياسيين، وبالتالي، استيعاب الأفكار و التطلعات الجديدة للمجتمع المعبر عنها من خلال فعاليات المجتمع المدني.
9) ما هي الرؤية المستقبلية للمجتمع المدني والمجتمع السياسي (جدلية التكامل والصراع)؟
انطلاقا من مضامين الدستور، فقد تم تحديد خارطة طريق استرشادية لكلا الفاعلين السياسي الحزبي والمدني الجمعوي، وهكذا، فقد عزز الدستور المغربي مكانة الأحزاب السياسية و أوكل إليها مهام التأطير و التمثيل والتنشئة السياسية، وإعداد النخب و البرامج الكفيلة بحيازة ثقة الناخبين، وعبرها الوصول إلى السلطة وممارسة الشأن العام. و بالمقابل، أسند نفس الدستور للمجتمع المدني أدوارا ومهام جديدة، تتمثل في كونه “سلطة” وسيطة بين الدولة والمجتمع من جهة، و شريكا أساسيا للمجتمع السياسي و هيئاته التنفيذية والمنتخبة في بلورة ووضع و تنفيذ وتقييم و تقويم السياسات العمومية المنتهجة.
و على هذا الأساس، فإنني أعتقد جازما بأن السنوات المقبلة ستشهد تناميا متصاعدا لدور وفعاليات المجتمع المدني في مقابل المجتمع السياسي، (مع الإشارة إلى أن جسور التفاعل والتبادل وتبادل التأثير والتأثر تظل قائمة بين الحقلين المدني و السياسي). وباختصار، فان ما نعيشه اليوم من زخم وحضور لافت في الفضاء العام لفعاليات المجتمع المدني كقوى اقتراحية مؤثرة في صناعة و توجيه الرأي العام، من جهة، وتملكه اللافت لآليات والتأطير و وسائط التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، بات يشكل ما يمكن أن نصطلح عليه ب”حزب المجتمع المدني”. وهذا مظهر آخر من مظاهر انبثاق نخب مدنية متشبعة بالممارسة السياسية خارج مظلات الأحزاب السياسية. وأمام هذا المشهد الجديد، يذهب البعض إلى تفسير قدرة المجتمع المدني على استقطاب واستيعاب فئات مجتمعية لا زالت مستعصية على التأطير الحزبي، إلى عوامل القرب من المواطن، وتقديم الخدمة في إطار التطوع، ويسر التفاعل والتواصل مع المحيط، والخبرة والدقة في فهم حاجيات و تطلعات المجتمع والتجاوب معها، بينما يرى البعض الآخر بأن تكامل الحقلين السياسي والمدني يمر عبر عقلنة العمل السياسي ودمقرطة الفعل الحزبي، وتخليق الخطاب والممارسة لدى الفاعلين السياسيين، وبالتالي، استيعاب الأفكار والتطلعات الجديدة للمجتمع المعبر عنها من خلال فعاليات المجتمع المدني.
– كلمة أخيرة؟ –
شكرا لكم على الاستضافة، ومتمنياتي لمنبركم بالتوفيق والسداد في مهامه النبيلة.