سناء العاجي: ما حدث في باريس ليس مهما

سناء العاجي

لأن الإرهاب الحقيقي عشّش بيننا. في العقول والأذهان. الضحايا ليسوا 129. كلنا اليوم أصبحنا مشاريع ضحايا للإرهاب. لأن بيننا أصدقاء صحافيون وفنانون ومهندسون وطلبة يبررون. يتساءلون إن كان الفاعلون فعلا مسلمين أم أنها مؤامرة غربية إسرائيلية ضد الإسلام والمسلمين.

غدا، في باريس، في لندن، في الدار البيضاء أو بيروت… كلنا مرشحون للموت باسم الله. لأن بيننا اليوم من يطعم الوحش ويجد له تبريرا. لأن بيننا اليوم من قال: “داعش لا تمثل الإسلام. الإسلام الحقيقي، خذوه من المعتدلين”. وذهبت لأرى بعض معتدليهم، فرأيتهم يدعون للقتل وتقطيع الأيادي. فيديو للعريفي على اليوتوب يقول فيه بأن “سفك الدماء وسحق الجماجم وتقطيع الأجزاء شرف للمؤمن”. ما أروع الاعتدال! دعوني أقف له تبجيلا. أليس هذا العريفي نفسه الذي احتج المئات مطالبين بحقه في “حرية التعبير”؟ لم أكن حينها من بين المطالبين بمنعه، لكني اليوم أسأل المدافعين عن “خطابه المعتدل”: ألا تساهم هذه الوجوه، والعريفي ليس إلا واحدا منها، في إنتاج ما حدث في باريس وما سيحدث، للأسف، في عواصم أخرى؟

ما حدث في باريس ليس مهما.

الأهم منه ما نعلّمه لأطفالنا في المدارس. بأن الجهاد واجب على المسلمين. بأن الإسلام هو الدين الحقيقي الوحيد. بأن الآخرين كلهم سيذهبون إلى النار. بأن الشيعة كفار. بأن اليهود والنصارى حرفوا دياناتهم. بأن نترحم فقط على موتانا المسلمين… وحين يكبرون، يكون لدى كل منهم قابلية لكل الأفكار المتطرفة.

ما حدث في باريس ليس مهما.

أمن أجل 129 شخصا، تقومون بكل هذه الضجة؟ في بغداد والرقة وغزة يموت العشرات يوميا دون اهتمام.

كيف نشرح بأن التضامن هو أولا مع الإنسانية؟ مع كل شخص قُتل لمجرد أنه وجد في الزمان الخطأ في المكان الخطأ.

لماذا لا نتذكر أن المسيرات التي تنظم في أوروبا تضامنا مع الفلسطينيين، قد تكون أكثر من تلك التي تنظم في ما يسمى بالعالم العربي؟ كيف نذكر بالدعم التلقائي للمواطنين في دول كألمانيا واليونان مع الوفود الأولى للاجئين السوريين؟ كيف نذكر بالتضامن الواسع الذي عرفه العالم إثر الهجمة الإرهابية ضد تونس (والذي شمل حينها، من بين ما شمل، تغيير صورة البروفيل لدى البعض)؟ ما بها ذاكراتنا، مخرومة ومريضة؟ نحن أنفسنا، في المغرب، ألم نتابع باهتمام كبير بدايات الثورة السورية واليمنية، وكنا في كل يوم نعد ضحايا القتل بأسف شديد؟ ألم تنتشر أعلام سوريا وفلسطين والعراق في فترات معينة عبر الفضاء الأزرق؟ للأسف، حين تحول القتل لروتين يومي، خفّت مظاهر التضامن دون أن يختفي التضامن نفسه.

ما حدث في باريس ليس مهما.

في فلسطين والعراق وسوريا يموت العشرات يوميا ولا أحد يهتم لهم. وفي بورما ومالي ونيجيريا. لماذا لا تغيرون صوركم على الفايسبوك؟ لماذا لم يقترح مارك زوكنبرغ هذه الخاصية بعد أحداث 16 ماي 2003؟ الفايسبوك تم إنشاؤه سنة 2004، ولكن ماشي مهم. ثم، لا تحاولوا أن تقنعوا أحدا بأنه، خلافا لما يدعيه البعض، الفايسبوك لم يقترح هذه الخاصية خصيصا لأحداث باريس. منذ بضعة أسابيع، كان الكثير بيننا يضعون العلم المغربي ممزوجا بصورهم الشخصية، احتفالا بالذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء. ثم أن الفايسبوك يقترح في كل مرة تطبيقات جديدة. صدقوني لا دخل للمؤامرة بالموضوع. علما أنك أصلا لا تحتاج لهذا التطبيق الجديد للتضامن مع من تشاء من الضحايا، لأنك تستطيع، كما كنا نفعل في السابق، وضع صورة العلم الكلاسيكي بدون مزج مع الصورة الشخصية.

ثم، وهذا هو الأهم: لا أحد يجبركم على وضع العلم الفرنسي أو التضامن مع ضحايا فرنسا. تضامنوا مع العراق وغزة وسوريا وبورما؛ لكن رجاء، لا تعطوا الدروس لأحد. لا ترفضوا تضامننا مع ضحايا فرنسا بحجة أن العراق ولبنان وسوريا وكينيا أيضا تعيش التقتيل اليومي. أن نتضامن مع ضحايا باريس لا يمنعنا من التضامن مع ضحايا بغداد ونيروبي وحلب. والعكس صحيح أيضا.

لا أعتقد أن الفلسطيني والعراقي والسوري يستحقون تضامنا أكبر ولا أقل. أنا أيضا أتضامن معهم، لكن ليس باسم العروبة والإسلام. أتضامن معهم لنفس الأسباب التي تجعلني اليوم أتضامن مع ضحايا باريس: لأن تضامني هو في الأصل ضد الظلم ومع الإنسانية. لأني أتضامن إنسانيا مع كل من فقد، ظلما، حبيبا أو قريبا أو صديقا. لأني أتضامن مع كل من سُلبت حياته هباء، لأن شخصا ما اعتقد أنه بذلك يدافع عن قضية مقدسة ما.

بدل التفرغ لمراقبة المتضامنين الذين غيروا صور البروفيل، تضامنوا مع من شئتم واتركونا نتضامن ضد الهمجية والقتل بغض النظر عن الأجناس… لكن رجاء، تضامنوا معهم بشكل فعلي لأنكم لغاية الآن، تكتفون بالتنديد ضد التضامن مع فرنسا.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد