تجديد الحقل الديني: المقدس والدنيوي

ذ. عبد الإله الكلخة

يُفكّر المُتدَيّنُ داخل نسق ثقافي محدَّد ومرصود سلفا وهو بالمعنى العام محكوم بشعور داخلي ووجداني مُنظّم في اتجاه اتخاذ القرار حيال وضعية اجتماعية أو إنسانية ما، فما يراه هو مختلٌّ من منظور ديني صرف؛ يحتاج عنده إلى تصحيح وإعادة البناء. فاللاَّعَدْلُ، واللاَّمُساواةُ، وغيابُ نُظُمِ الأخلاق الخالصة النَّقية كالعِفّةِ، والقناعة، والمُروءة، والصّدق… الخ؛ هي أفق لما يمكن أن يلمسه لغياب الديني (le religieux) في المجتمع الذي ينتمي إليه. الدِّينُ هو علامة (signe) مميّزِة وفاعِلة لمواجهة الواقع وتصحيحه، نقول علامة في الحدود التي يتشكل فيها الحقل الديني كمجموع كلّي من المُؤَوِّلات الخالصة التي ترسّبت في الذاكرة عبر الحكي (le récit)، والسِّيَر المقترِنَةِ بالرّسولِ والصّحابة، وبعض المواقف الخاصة برجالات الدين هنا وهناك (ابن حنبل، ابن تيمية، حسن البنا، سيد قطب…)، وحياة الدولة الإسلامية الخالدة في الوجدان …إلخ. فمن الجزء يَتِمُّ الوصول إلى العام، هناك حياة الرسول ومعه الصحابة، تحيط بهم هالة الوحي وقوَّته ووجاهته في تشكيل الأحداث، وبفعل هذا الحضور المكثَّف بالعواطف والانفعالات، يستحيل هذا الجزء من التاريخ إلى التاريخ نفسه، فهو معين لا ينضب من القيم المطبوعة بإرادة الجماعة المتدينة التي تنشد النصرة في الدنيا والنجاة في الآخرة.

لا يوجد في ذهن المُتديِّنِ بلغة “ميرسيا إلياد.M.Eliade””-  غير التاريخ المُقدّس، والعودة إلى الوراء حتمية، بما أن الماضي هو المقابل الموضوعي للقوة والسُّلطة، والعزّة والنصرة التي ستؤول للمسلمين، بما أنها وعد من السماء فلابد أن تجد أثرها في الأرض، وفي إرادة بشرية تسير بها في اتجاه التحقق.

    1.    الحقل الديني: البداهات والأفق

            ما الذي يبرر حقَّ الكَلامِ عن الحقل الديني، يجيب “بيير بورديو. P.Bourdieu: “أولا تشكيل خاص من الخصائص، وأحد أهداف البحث هو أن يعين هذه الخصائص النشيطة أو تلك المميزات الفاعلة، أي تلك الأشكال من الرأسمال الخاص، وهكذا يكون المرء بإزاء نوع من الدوران التأويلي: فلكي يبني الحقل، لابد أن يُعَيِّنَ  أشكال الرأسمال الخاص التي ستكون ناجعة فيه، ومع كل تَبَنٍّ لهذه الأشكال من الرأسمال الخاص يجب أن يعرف المنطق الخاص للحقل، إنه ذهاب وإياب غير متوقف في سيرورة البحث التي تعد طويلة وصعبة”[1].

             يحكم الحقل الديني منطق التدافع، ونقصد به الصراع القائم على الغلبة والمنعة بتعبير ابن خلدون. إن من يمتلك سلطة التدبير يمتلك معها في الحدود القصوى سلطة الحديث عن الدين، وباسمه تتفرع دلالات الهبة، والتسامح، والمصالحة، والوسطية والاعتدال،…إلخ. ليس الدين هنا مجموع الشعائر ولا الطقوس ولا العبادات، إن هذه المُؤَوِّلات النّسقية المستمدة من الدين والمسكونة بهاجس الطّاعة والمدعومة بوجدان تيولوجي خالص يؤمن بالغيب، ويُسطِّر فهما خاصا للدين الذي يعني عند المُتَّدين في الحدود القصوى الخلاص الروحي والنجاة من العذاب في الآخرة، إذا ظهرت عند غيره هذه الإرادة وهذا الإحساس فليس ذلك دليلا على صدق إيمانه.

              لا تتوقف المسألة في هذه الحدود وحسب، فهذا الإيمان الصادق قد يوازي عند جماعة مقدسة ما السكوت عن الحقَّ، والإقرار بالظلم، وعدم القيام بالواجب الديني، فالكفاح والجهاد باسم إله عادل هو معنى الإيمان والوجه الطبيعي الذي يقابل دين الحق.

             بهذا المعنى تحدث “عبدالسّلام ياسين” مثلا عن الغُثائيين والدَّوابِيين غير القادرين على فهم المعنى العميق للرسالة المحمدية[2]. الرسالة عنده هي الرديف الطبيعي للقَوْمَة واكتساح الساحة بغية نشر دين الله الحق، لذلك يلتمس الشيخ من الكلّ الالتزام بالجماعة والدخول فيها بما أنها تحمل المعنى السليم للعقيدة.

             كما يتلخص الديني في اجتهادات فقهاء الشريعة؛ ومضمونه الدعوة إلى الطُّهر والنظافة والترفع عن الآثام والتحصين من الدَّنس بكل أبعاده، يظهر هنا أن المقدَّس الدّيني يسير جنبا إلى جنب مع الممارسة السياسية، فالخارجون عن تدبير الشأن السياسي يرمون إلى الالتحاق به لتصحيح العقيدة من خلاله. التدافع بين من يمتلك الرأسمال الرّمزي الديني، ومن يتوخى إقامته على الوجه الذي يريد ويعتمده باعتباره صحيحا وسيبقى ثابتا وأبديا.

            وكما يتّسم هذا الحقل بالتدافع، يتميز كذلك بالتّوتر لأن هناك دائما رصد لوضع تدعي الذات المتدينة القدرة على تصحيحه، عبر هذه الآلية القائمة على ادّعاء تمثل الدّين القويم يمرر العنف باعتباره قوة تسعى إلى إثبات الرأي ووجهة النظر حول الدين وكأنها هي الدين نفسه.

            من البديهي أن المتدين يقدّم نفسه باعتباره ذاتا متأملة للواقع ومسائلة لوضع تراه متردّيا، وسبب هذا التردّي هو بعد الأمة عن الصراط المستقيم. هذه البداهة عنده ناتجة عن التطبيع مع ماض قائم في الوجدان لا يراه إلا نموذجا ومعيارا لمحاكمة الواقع ومصادرته، فعدالة عمر، ودماثة أخلاق أبي بكر، وشجاعة علي وانتماؤه إلى آل البيت، وبعده قوة خالد بن الوليد، وكذا صلاح الدين الأيوبي …إلخ تتشكل في الوجدان كخيط ناظم من القيم والبطولات لا يشوبها نقص ولا نتوء. الزمن القدسي بهذا الاعتبار زمن مكتمل وسرمدي  ومتعال بتعبير “مرسيا. إلياد”.

            كيف يمكن محاورة هذا الماضي، وهل يستطيع المتدين النفاذ إليه ليفهم تقطيعات الزمن الإنساني المتغير والخاضع للإرادة البشرية؟ من يقوم بهذا الدور؟

           ما الدين إذن؟ هو الإيمان في جزء منه، وهو الثقافة التي ترسخت عبر التاريخ السياسي والفكري والعقائدي للأمة. والإشكال هو لماذا يسبق إلى وجدان المتدين الإرادة الموسومة بالعنف والمواجهة، ويتوارى إلى الخلف معنى العفو والتسامح ! ؟

             القضية في العمق تعود إلى تأويل النص المقدس/ القرآن، فمنطوقه ينزع إلى العفو والتآخي ونبذ الحقد والكراهية والحسد، وقتل النفس بغير حق… إلخ؛ ولسنا هنا في موقع التدليل على هذا بمجموع الآيات التي تصب في هذا المعنى، وبالموازاة مع هذا تظهر آيات أخرى تَتَلَبَّسُ بمعاني الجهاد والمواجهة، وقتل الكافر وعدم المهادنة معه. هل نذهب إلى أن معاني النص المقدس محكومة بسياق تاريخي خاص ؟ هذا التخريج قد يدفع بالمسلم / المتدين إلى مواجهة هذا الرأي بتهمة الإلحاد والكفر، فصلاحية النص الديني لكل زمان ومكان تغنيه عن مثل هذا الاجتهاد.

           يميز “محمد أركون” في كتابه “الفكر الأصولي واستحالة التأصيل” بين الوحي وتاريخه[3]؛ ولكي نُفْهِمَ الفروق نقول بأن الوحي زمن الرسول كان يتسم بالحيوية والقدرة على البناء والهدم، باختصار كان الوحي يتمتع بالدينامية، فالمسلم هناك كان يجادل، ويحاجج، ويقبل ويستجيب، وقد يرفض… هذا الإحساس ربى في وجدان الجماعة الأولى مبدأ الحوار والمحاججة والأخذ بالرأي مع الاقتناع بقيمة الوحي والإيمان، بعد ذلك – بعد المرحلة المحمدية- أصبح الوحي في ملكية الظرف السياسي فتوزع بين سنة تدعي أحقيتها في فهم النص المقدس، وشيعة تتمثل التصور ذاته. وتدفع في اتجاه تكفير من لا يتمثل تأويلاتها، وقل قناعاتها في الملة والعقيدة.

      2- التفكير في الدين

            قَدّم لنا التفكير في الدين عبر التاريخ الإسلامي الطويل تنويعا ثقافيا وفكريا يتسم بالنسقية والعمق النظري، نذكر “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال” لابن رشد وهو كتاب يقوم على إيجاد العلاقة الممكنة والطبيعية بين الدين والفلسفة، كان الجهد قائما على الفصل بين خطاب يقوم على الإيمان والآخر سنده البرهان. وبما أن البنيات مختلفة فمن اللازم والضروري عدم إسقاط نتائج الحكمة والفلسفة على الدين، فهذا النظر قد يؤدي إلى ضياعهما معا، إذ مقدمات الفلسفة المُهَيِّئَة للتصديق تلتزم بالبرهان وتخضع له، في حين أن مقدمات الدين تتأسس على الإيمان وحسب. والخلاصة أنّ كل من الفلسفة والدين حق وكلاهما ينشد الفضيلة والسعادة عند الإنسان.

            كما تبلور النسق المعرفي الديني، وتم توظيفه في كتاب “طوق الحمامة في الألفة والألاف” حين ساءل ابن حزم الحب من منظور ديني خالص، فكشف على أنه خصيصة إنسانية لا يعترض عليها الدين الْبَتَةَ، فاسْتدلَّ على قيمة الوجدان/الحبّ بما يناسبه: أي العفة والطهر والنقاء..

            كما أظهر نسق الحكي في سيرة “حي بن يقظان” حين أَوَّلَ ابن طفيل الكون ووضع له سيمياء تتلاءم مع النسق الديني: التأمل، الإدراك، كينونة الإنسان، علاقته بالواحد المتوحد.

             كيف ننقل بالدين هذه الإرادة الحرة القيمية التي تجعل منه فكرا صالحا لكل زمان ومكان؟ المعنى باختصار شديد هو قدرة الفرد على بناء الأنساق المعرفية من خلال الدين.

            تقلص الحقل الديني بفعل اختزاله إلى فتاوى وإصدار الأحكام واجتهد الفقيه في تحويله إلى ضوابط (حلال/حرام) ، وتجديد هذا الحقل معناه صنع إرادة حرة تؤمن بحق الاختلاف باستدعائها للحدث الديني باعتباره فكرا وثقافة، لا الحدث السياسي بالمعنى الضيق للكلمة “الفتنة والصراع المذهبي”.

      المراجع: بالعربية

      [1] – أركون محمد. الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي. تر. هاشم صالح. دار الساقي. ط.3. 2007.

      2 – بورديو بيير. أسئلة علم الاجتماع. في علم الاجتماع الانعكاسي. تر. ع. الجليل الكور. دار توبقال للنشر. ط1. 1997.

      3- ياسين ع. السلام. العدل. الإسلاميون والحكم. دار الآفاق. ط.3. 2001.

       

      بالفرنسية

      –      Eliade (M) le sacré et le profane. Gallimard. Folio 1990.

      –      Brono ( E) l’islamisme radical. éd. Hachette. 1987.



      [1] – بورديو بيير. أسئلة علم الاجتماع. في علم الاجتماع الانعكاسي. تر. ع. الجليل الكور. دار توبقال للنشر. ط1. 1997. ص: 76

      [2] – ياسين ع. السلام. العدل  / الإسلاميون والحكم. دار الآفاق. ط.3. 2001.

      [3] – أركون محمد. الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي. تر. هاشم صالح. دار الساقي. ط.3. 2007.

      تعليقات الزوار
      جاري تحميل التعاليق...

      شاهد أيضا

      يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد