“الأمازيغية بين الجذور والهوية: نحو تفعيل ثقافة التعدد اللغوي”

هند بومديان

في عالم تتسارع فيه العولمة وتذوب فيه الخصوصيات الثقافية، تصبح مسألة الهوية ضرورة ملحّة أكثر من أي وقت مضى. في المغرب، تبرز اللغة الأمازيغية باعتبارها عمقًا راسخًا في وجدان هذا البلد، لا كمجرد لغة من بين لغات، بل كذاكرة حية تنبض بتاريخ طويل من التعايش والحرية والانتماء. ومع الاعتراف الدستوري بالأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، ظن الكثيرون أن صفحة جديدة قد فُتحت، غير أن الواقع أثبت أن الاعتراف لا يكفي ما لم يصاحبه تفعيل حقيقي على مختلف المستويات.

فاللغة، بطبيعتها، ليست مجرد وسيلة للتواصل اليومي، بل هي خزان رمزي ومخيلة جماعية، وهي أيضًا وسيلة لنقل القيم وتشكيل الوعي. ولهذا، لا يمكن أن نتصور أي حديث عن الهوية دون أن تكون اللغة في صلبه. الأمازيغية ليست استثناء، بل هي أحد أبرز تجليات هذا التفاعل بين اللغة والكينونة. غير أن الحضور الرمزي وحده لا يصنع تغييرًا. لا يكفي أن نرى حروف “تيفيناغ” تزين بعض اللوحات الإشهارية أو الإدارات، ما لم تصبح هذه اللغة حاضرة في المدرسة والإعلام، وفي الحياة اليومية للمواطن.

تفعيل اللغة الأمازيغية لا يعني إقصاء العربية، ولا يمثل خطرًا على وحدة الوطن، بل هو بالعكس، تعبير صريح عن الاعتراف بالتنوع بوصفه مصدر غنى وقوة. في بلدان عدة، أثبت التعدد اللغوي أنه ليس تهديدًا للتماسك الاجتماعي، بل دعامة له. فحين يشعر كل مواطن أن لغته، أيًا كانت، تحظى بالاحترام والتقدير، ينمو لديه الإحساس بالانتماء والكرامة.

لكن التحدي الحقيقي لا يكمن فقط في إصدار القوانين، بل في توفير الإرادة الفعلية لتطبيقها. كثير من المبادرات بقيت حبيسة النصوص، ولم تنتقل إلى الواقع بسبب غياب رؤية واضحة، وأحيانًا بسبب بيروقراطية تُفرغ كل شيء من معناه. المطلوب ليس تجميل الواجهة، بل تغيير العمق. المطلوب ليس الاحتفال بيوم عالمي للغة الأمازيغية، بل إدماجها في كل مستويات الفعل الثقافي والتربوي والإداري.

لقد آن الأوان للخروج من منطق التجميل إلى منطق الإنصاف. فالثقافة الحقيقية لا تُبنى بالشعارات، بل بالسياسات، ولا تُختزل في المهرجانات، بل تعيش في الكتب والمناهج والفنون والحوار اليومي. إن كنا نطمح إلى مغرب يتسع للجميع، فإن أولى خطواتنا يجب أن تبدأ من اللغة، لأنها مفتاح الكرامة الفردية والجماعية، ولأنها مرآة تعكس احترام الدولة لمواطنيها بمختلف انتماءاتهم.

اللغة الأمازيغية ليست مجرد إرث من الماضي، بل هي جزء من المستقبل. مستقبل لا يُبنى بالإقصاء أو التجاهل، بل بالاعتراف الحقيقي، وبالشراكة في صناعة المصير المشترك.

تعليقات الزوار
جاري تحميل التعاليق...

شاهد أيضا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. موافقالمزيد